حافلة الحياة


بدأت الدراسة و أهملت الكتابة .. أمر عادي فهكذا أنا !
في الحافلة المزدحمة بالركاب و في طريق عودتي للمنزل .. أحس بملل شديد .. وضعت سماعات الأذن في أذناي بدون أن أشغل الجهاز أو الإستماع لشيئٍ معين .. وضعتها فقط لتفادي الدخول في حوار مع السي علال .. الرجل الذي يجلس بجانبي و يقطن بجانبي  و يعمل بالقرب من الكلية التي أدرس فيها .
' السي علال ' عجوز من جيل ما قبل الإستقلال .. آختلف معه في جل أفكاره تقريبا .. رجل يعارض فقط من أجل المعارضة ،
لهذه الأسباب و زد عليها أني كائن غير إجتماعي أثرت التظاهر أني مشغول على الكلام معه .
لكن و بالرغم من هذه المسرحية التنكرية التي كنت بطلها .. لم يهدأ السي علال إلا بعد أن كسر الصمت المفروض بيني و بنيه ليقتحم علي خلوتي و يخرجني من ضيافة نفسي ويقلب علي المواجع و يسألني :
ـ كيف كان يومك يا إبني عزيز !؟
ـ كان يوم طويل .. متعب شاق وما شأت من مرادفات القهر و التذمر .. حقاً مر وكأنه مجموعة كلفت بإغتيالي فلم ترنِ على رأي البرغوثي .
ـ أ البرغوثي الذ لم تفرج عنه ' إسرائيل ' في صفقة الذل الأخيرة مع خوانجية غزة ؟؟
ـ صفقة الذل .. خوانجية غزة !!؟ السي علال يبدو لي أننا سنعود لمعركتنا الأزلية و نقاشنا الطويل من جديد .
صمت قليلا ثم همست له قائلا :
ـ لا شك ان ركاب الحافلة قد أُزعجوا اليوم بما فيه الكفاية و الدليل العبس المسيطر على محياهم .. فلا داعى لنعذبهم نحن أيضا بنقاشنا ' الخاوي ' .. على العموم البرغوثي هذا شاعر فلسطيني وليس البرغوثي الذي لم يفرج عنه الكيان الصهيوني في صفقة الفخر مع رجال غزة .
إبتسم السي علال ثم حاد بنظره عني و رمى به خارج الحافلة .
إزدحمت شاشة هاتفي بأرقام هاتفه و إسمه يعلوهم .. قطعت الخط ، ثم عاد هاتفي ليرن مرة أخرى
السي علال : رد !
ـ لا
ـ رد !
ـ قلت لا ... إشتقت إليه لكن جرحي أكبر من إشتياقي !
ـ جرحك !؟ أنا أعرفك .. هي خيانة إذن ؟
ـ تماماً
ـ مما علمتني الحياة يا ولدي :
إذ لم تستطيع أن تقدم شيئ  للأخر  تسعده به .. فقط لا تخونه ، فطعم الخيانة مر وجرحها لا يبرى مهما طال العمر و مهما توالت الأيام .
ـ صدقت السي علال !
عم الصمت بيني وبينه لمحطتين أو أكثر ..
وها نحن إقتربنا من محطتنا الأخيرة .. وقفت بجانب الباب إستعدادا للنزول .. السي علال لم يبرح مكانه قط ، حياني و قال : أريد ما بعد المحطة .. لدي ما أقوم به هناك .
رددت عليه التحية و إنصرفت .
اليوم الثاني ..
مر كسابقه .. بروتينه بتفاصيله جلها .
في طريق عودتي أخدت الحافلة كالمعتاد المملوءة عن أخرها كالعادة .. بحث بداخلها عن السي علال فلم أجده .. فحمدت الله على الأقل لن ألعب دور المشغول هذا اليوم .
عند وصولي لباب منزلي .. لا أعرف لما إنتابني شعور غريب دفعني للذهاب في إتجاه منزل السي علال .
في العادة منزل السي علال غالبا ما يكون مقفول الباب و النوافد ، شكله الخارجي يوحى بأن الحياة قد هجرته منذ زمن .
لكن هذا اليوم و على غير العادة فالمنزل مملوء بعدد هائل من النساء يبكون و رجال يسترجعون و صغار أحدهم يسأل من أين  الطريق إلى المقبرة و أخر متى يقدمون الكسكس .
سألت و بنبرة تخالجها رغبة مجهولة في البكاء : ماذا يجرى هنا !؟؟
فتهاطلت علي الأجوبة كالصواعق ..
السي علال مات ..
 مات السي علال ..
ثم إنقطعت  الكلمات .. و توقف الزمن بالنسبة لي و عم البياض و مات السي علال .

...
تكلم مع الجميع و أعط وقتا للكل حتى وإن كنت تستصعب ذلك على الأقل حاول .. فالله وحده من يعلم أستلتقيان بعد لقائكم هذا أم أن طرف منكم سيكون غائب و إلى الأبد .
سلامي !