مذكرات إبن حي شعبي (2)


عزمت نفسي في واحدة من ليالي رمضان المتشابهة لفنجان قهوة في مقهى بجانب منزلي .. نفس المقهى حيث أمارس هواية الشرود المملة وهي نفسها التى أقضي فيها أغلب وقت تحضير إمتحانات الكلية .. أذاكر.
مقهى عادية جدا ، لكن ميزتها الوحيدة أنها لا تنقل مبرايات كرة القدم .. وهذا يعني ضجيج أقل .
يسكنها صمت فظيع قاتل إلا بعض الكراسي و الطاولات التي ثترثر خفية فيما بينها مصطنعة بذلك ضجيج للصمت . لا أعرف لما كان النادل يجمع أغلبها في حيز معين من المكان ويترك طاولة و كرسي واحد في ركن قصي من المقهى .. هنا بالضبط كنت أجلس .
طاولة و كرسي واحد .. حتى إحتمال أن يقاسمني غريب الطاولة و يأنس وحدتي منعني إياه النادل .. ربما لهذا السبب لا أحبه !
بإمكاني و أنا جالس في هذا الركن أن أشاهد كل شيء تقريبا ..
بنات الطابق العلوي .. بائعات الهوى كما يحلو للنادل تسميتهن .. دخان سجائرهن .. دمعاتهن التى طلقت السببية منذ زمن بعيد في لحظات شرودهن الطويلة .. لؤمهن .. ضجيج رنات هواتفهن الغبية .. يا ترى ما علاقة العاهرة المغربية و أغاني الخليج !؟
أن أشاهد العطاشة .. العاطلين عن العمل .. العاطلين عن الحياة .. المحللين لكل شيء تقريبا السياسي و السوسيوـ إقتصادي بأصواتهم المزعجة و نبراتهم الواثقة .. أشاهد من جاء مثلي لا يعرف لما ! .. أشاهد ذلك الرجل الذي كلما لمحته تذكرت درويش حين يقول : " هو لا يراني حين أنظر خلسة .. أنا لا أراه حين ينظر خلسة .. هو هادئ وأنا كذلك ".
لكن اليوم و على غير المعتاد ، تذب حركية غريبة في المقهى .. ما السبب ؟
لم أنتظر كثيرا حتى علمت أن الطابق العلوي من المقهى قد إستأجره الليلة رجلا يريد الإحتفال بعيد ميلاد إبنته هنا .. في هذا المكان البئيس.
لحسن حظي كل الطاولات قد إستأجرت إلا طاولتي و كرسيها الفرد . ترجلت نحوها بخطوات لا يسمع حثيتها، فجلست بهدوء.
عائلة بكل أفاردها يحتفلون ..
عبارات التهاني التى تردد على مسامع المحتفل به و موسيقى اعياد الميلاد البليدة تملأ المكان .. أكاد أسمع صوتا من بعيد يرحب بالفتاة في عشرينيتها الأولى .. في عقدها الثاني .
فتذكرت الثلاثة و العشرون سنة التي عشتها .. أعيش منذ زمن .. قاربت ربع قرن .. كيف سمحت لهذا أن يحدث !؟
أعياد ميلادي الأربع الأخيرة إحتفلت بها هنا ووحيدا في هذا المكان . أتبرع على سنواتي بحلوة و أشعل شمعة، أذكر أني في كل مرة كنت أجلس أراقبها وهي تحرق نفسها حتى أخر ومضة ، لا أعرف ما المتعة في رؤية شمعة تموت ببطء حقا لا أعرف ، ربما هي سعادة مصطنعة مستمدة من آن هناك من يحترق لأجلي .. حتى ولو كانت شمعة .
وضعت ديوان درويش جانبا و تناولت قهوتي ، لي و القهوة طقوس خاصة .. أشربها في جرعات متتالية و سريعة .. أنهيتها و فتحت الديوان : محمود درويش يرفع صوته بأن " ﺍﻟﻘﻬﻮﺓ ﻻ‌ ﺗُﺸﺮﺏ ﻋﻠﻰ ﻋﺠﻞ، ﺍﻟﻘﻬﻮﺓٌ ﺃﺧﺖ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺗُﺤْﺘَﺴﻰ ﻋﻠﻰ ﻣﻬﻞ، ﺍﻟﻘﻬﻮﺓ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﻤﺬﺍﻕ، ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺮﺍﺋﺤﺔ، ﺍﻟﻘﻬﻮﺓ ﺗﺄﻣّﻞ ﻭﺗﻐﻠﻐﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﻓﻲ ﺍﻟذﻛﺮﻳﺎﺕ " .. أبتسم و أهمس : " القهوة الباردة طعمها كطعم الاستيقاظ المتأخر من النوم .. تفقد بكارتها كما يفقد اليوم عذريته ببزوغ شمسه و إنجلاء فجره .. لا طعم يبقى له و لا لها ! القهوة تشرب في حال تحضيرها قبل أن تدنسها الكلامات " و أنصرف .